جمع وإعداد: عفاف بنت يحيى آل حريد
بسم الله الرحمن الرحيم
حياتنا والاستهلاك (1)
ما أدق الخيوط والفواصل التي تفصل بين الشيء وضده، بين الإيجاب والسلب، في ميزان الله عز وجل.
وما أدق الفارق بين الشح والادخار، بين الكرم والتبذير، بين الاكتفاء والزهد، وبين الزهد والحرمان، وما أسرع ما تطيش كفة على حساب كفة أخرى عندما يفقد الإنسان أو يغفل عن دقة وزن الأمور بالقسط، على النحو الذي يبينه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حديثه للناس كافة: ) يا ابن آدم، إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى ( رواه مسلم.
تلك هي الخطوط العريضة التي تحدد نمط معيشة متوازنًا ومتكاملًا، تدفع بالإنسان أولًا إلى تأمين ما يسد احتياجاته الضرورية، واحتياجات من يعيل من أفراد أسرته؛ ليكون له بعدها ثواب بسط الفضل -الزائد عن الحاجة- إلى من هو بحاجة إليه في مجتمعه، فإمساك ما هو زائد عن الحاجة شر وعبء، يوصل صاحبه إلى الإصابة بعارض الاحتقان المزمن، ويمنع تكافله مع أفراد مجتمعه.
لكن مسلم اليوم عاجز في عصر الاستهلاك عن بذل ما هو زائد عن الحاجة؛ لأنه عاجز عن تحديد معيار الحاجة.
إن الوسطية والاعتدال هي أعظم تجليات الرسالة الخاتمة، وهي التي أكسبت المسلمين يومًا موقع الشهادة: ﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ﴾ [البقرة: 143].
ومنذ أن بدأنا نطفف ونخسر الميزان أصاب حياتنا ومعيشتنا الخلل، وفقدنا الاعتدال.
علينا أن نعترف بمرض خطير أصابنا: إنه مرض حمى الاستهلاك، وعلينا أيضًا أن نعرف ما هي أعراض هذا المرض.
العوارض المرضية:
العارض الأول: حمى التسوق.
مما يساعد ويدعم حمى التسوق: شبكة الاتصالات (الإنترنت)، والدعاية والإعلان.
حينما نقوم بزيارة لأحد المجمعات التسويقية الضخمة، نجد كل ما يغرينا ويدفعنا إلى التسوق، ألوان من التسلية والترفية، تنقلها لنا أجواؤها البراقة.
لقد بات كثير منا ينظر إلى تلك المجمعات التسويقية على أنها المكان الأمثل لالتقاء الأسرة، وفي الواقع فإن كل فرد يذهب بمعزل عن الآخر إلى المكان الذي يستهويه.
لقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يدرك يقينًا ما يمكن أن تحدثه التجارة أو اللهو من وقع على النفس، والله -عز وجل- يقول: ﴿ وإذا رأوا تجارة أو لهو انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين ﴾ [الجمعة: 11].
فإذا كان هوى النفس قد حمل الصحابة على ترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو قائم في مسجده؛ بحثًا عن اللهو أو التجارة! فكيف بمسلم اليوم وسيل رغباته إذا ما رأى تجارة مقترنة بلهو؟!
العارض الثاني: طفح الإفلاسات.
إن أكثر ما يدفع الناس إلى التسوق والاستهلاك هو "بطاقة الائتمان"، حيث سهولة استخدام تلك البطاقة من جهة، وسهولة الحصول عليها من جهة أخرى، قد جعلت الناس يقبلون على كثرة التسوق، وشراء المزيد من البضائع لغير حاجة.
إن وفرة وسهولة تلك البطاقات قد جعلت الناس ينسون أنهم يتعاملون مع مال حقيقي، وهذا ما يجعلهم يستغرقون بالتسوق إلى أن يصبحوا عاجزين تمامًا عن سداد ما عليهم من أقساط، فتزداد الديون تراكمًا، إلى أن يصلوا حد الإفلاس.
كثيرًا ما ننظر إلى جانب من المسألة دون آخر، لا شك أن بطاقات الائتمان باتت اليوم من مستلزمات العصر، فهي أكثر سهولة ويسرًا في التداول والتعامل المالي من الأوراق النقدية، كما تعين على حرية التنقل من مكان لآخر، دون خوف من سرقة أو عملية نشل.
المشكلة إذن ليست في الوسيلة، بل فيمن يستخدمها.
على الرغم من عدم انتشار ظاهرة استخدام البطاقات الائتمانية في بلادنا العربية، إلا أن شعوبنا باتت عاجزة عن رفع الديون عن كاهلها، طفح الديون بين أبناء الطبقة المتوسطة، والطبقة الفقيرة، بل حتى بين أبناء الطبقة الغنية، يعود إلى انتشار ثقافة الاستهلاك الوبائية.
العارض الثالث: انتفاخ التطلعات وتضخم الأطماع.
إن ما يمتلكه أبناء هذا الجيل أكثر مما كان يمتلكه أبناء الجيل السابق، وبالمقابل فأطماعهم وتطلعاتهم باتت أكثر.
فإذا نظرنا إلى مستوى المعيشة سابقًا كيف كان وكيف أصبح الآن؟
أصبح الكل يتطلع اليوم إلى منازل واسعة، كذلك إلى سيارات مزودة بوسائل الراحة والجمال، أيضًا تناول الأطعمة الغربية الدخيلة أمرًا اعتياديًا مألوفًا، ولهذا فإن الحاجة تزداد يومًا فيومًا إلى تجربة ما هو أجد.
المسلم مأمور بالتطلع، بل بـ (انتفاخ التطلعات والأطماع)، ولكن بموازين مختلفة، فإذا كان التطلع متوجهًا إلى الثراء المادي، أتى الأمر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتحويل الوجهة والنظر إلى من يعيش ظروفًا مادية أدنى؛ ليستشعر الإنسان عظيم نعم الله عليه ويعمل على تأديته ) انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم ( متفق عليه.
وإذا ما كان التطلع متوجهًا إلى الثراء النوعي، يدفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأمته إلى مزيد من التطلع؛ بل وإلى انتفاخ الأطماع بقوله: ) لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها (.