الدكتور/ فايز بن عبد الله الشهري
تقدّم دراسات الاتصال الجماهيري العديد من النظريات التي تحاول وضع تفسيرات مختلفة لتأثيرات وسائل الإعلام في المجتمع ومنها نظرية «تحديد الأولويات» (Agenda Setting). ويتلخّص جانب مهم من فكرة هذه النظرية في جدليّة قدرة وسائل الإعلام على توجيه وتغيير الاتجاهات من خلال تأثيرها في الناس. ويأتي تَوَقُّع التأثير من كون هذه الوسائل تحدّد «للرأي العام» من خلال ما تبثه وتنشره أولويات القضايا العامة (سياسية، اقتصادية، اجتماعية..) وتركّز (وفق معاييرها) على موضوعات بعينها وبالتالي تثير بتركيزها عليها اهتمام الناس تدريجيا حتى تصبح مدار اهتمامهم ومتابعتهم أكثر من غيرها من القضايا التي تغفلها هذه الوسائل.
و يَفترض العلماء - وفقا لمفاهيم «التأثير المعتدل» - أن وسائل الإعلام وهي تُوجه اهتمام الجمهور نحو قضايا بعينها، أنها تقترح (تفرض) - بشكل أو بآخر - طريقة تفكير المتلقي فيها، وتحدد - وفق درجات تأثير متفاوتة - ما الذي ينبغي أن يعرفه أو يشعر به حيال ذلك.
وحين ظهرت شبكة الانترنت مع مطلع تسعينيات القرن الماضي لم تكن وسائل الإعلام التقليدية تدرك أنها ستكون في مواجهة (أكبر تحدٍ) يجابه الصناعة الإعلامية برمتها سواء من حيث مفهوم الصناعة تجاريا، أو طبيعة الممارسة المهنية خاصة وان كثرين في أول الأمر - ربما - لم يحسبوا كبير حساب لجهاز «كمبيوتر» قادم من معامل الحاسبات!!، ودهاليز الجيش الأمريكي!. ولكن هذا الجهاز تمكّن في غضون سنوات قلائل من (إذهال) الناس وخلط الكثير من أوراق اللعبة الإعلامية، بحيث مكّن المستثمرين في تطبيقاته المتنوعة من إخراج «صحيفة» تُقرا (ولا) تُطبع، بل وتُحدّث على مدار الساعة، ومكّن الهواة والمحترفين - سواء بسواء - من إطلاق محطات إذاعة وتلفزيون لا تحتاج إلى مقويات إرسال ولا تراخيص صدور.
ولعل أهم قواعد اللعبة الإعلامية الجديدة في بيئة الانترنت أن لا رقيب يمنع، ولا قانون مطبوعات يحدّ من طموحات الناشر «الجديد» فيمكنه أن يبدأ مشروعه الإعلامي بأقل من مائة دولار!!، و بحسب طبيعة ومعطيات الواقع التقني فسيحظى بذات الفرص التي لم تكن متاحة في عصر ما قبل الانترنت إلا لكبار الناشرين والمستثمرين. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد ففي عصر جماهيرية الشبكة بات المحتوى الانترنتي متصدرا الأخبار ومحدِّدا في كثير من الأحيان «الأجندة الإعلامية» لوسائل الإعلام، وكأن المعادلة باتت معكوسة هنا (فعامة) الناس باتوا - كما يبدو - أكثر تأثيرا وقوة في تحديد قضاياهم «وأولويات» وسائل الإعلام أكثر من (النخب) التي تدير تلك الوسائل.
ويلاحظ المراقب - عربيّا ومحليّا - وضوح تأثير الانترنت على تشكيل التوجهات وترتيب» أولويات» الرأي العام و في هذا السياق يمكن ملاحظة أن شرارة بعض الاحتجاجات والحملات الإعلامية الشعبيّة انطلقت أول الأمر من منتديات الانترنت ثم انتقلت إلى الوسائل التقليدية لتتصدر نشرات أخبار الوسائل الرسمية وشبه الرسمية فيما بعد. وهذا ما حصل بشكل واضح مع كثير من أخبار وصور ضحايا الانتفاضة الفلسطينية عام 2000م وأشهرها لقطات قتل الصهاينة للطفل الفلسطيني «محمد الدرة»، وما تبعها عبر الانترنت من دعوات إسلامية شعبية لمقاطعة السلع الأمريكية (2002م)، وكذلك كان حال دعوات مناصرة بعض القضايا العربية والإسلامية مثل حق حجاب الطالبات المسلمات في فرنسا (2004م) وحملة نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقاطعة المنتجات الدنمركية (2006م) وغيرها من القضايا التي أثارت الرأي العام العربي والإسلامي وكانت الانترنت في قلب هذه التظاهرات ركنا مهما في عملية إبرازها أو دعمها وتعزيز منطلقاتها.
ولو لم تكن الانترنت الحرّة موجودة ربما لن يعرف ولن يشاهد العالم بشاعة المحتل في (أبو غريب)، ولولا فضاؤها الرحب لما ظهرت أصوات المهمّشين والمقموعين و الفقراء المعدمين الذين تجاهلتهم وسائل الإعلام التقليدية في طول العالم وعرضه. وحدها شبكة الانترنت تتحدّث للناس باسم الناس، وهي وحدها من لديها القدرة لطرح نفسها تحت اسم «الإعلام البديل» لكل الوسائل التي ظلّت وستظل رهينة القوانين والأجندات المعلنة والخفية.
مسارات
قال ومضى: كيف أمنحك البراءة وكل صفحات الذكريات الحزينة تحمل توقيعك.